الأحد، 4 ديسمبر 2011

ذكريات تداعب الذاكرة3

"بيت عمتي"
أدخل غرفتي الجديدة فيصفعني لون جدرانها الاصفر الشاحب ويثير في قلبي الانقباض ,القي بحقيبتي بلا مبالاة وابدل ملابسي على عجل ووخزات البرد تكاد تفتك بي اغوص بسرعة تحت البطانية باحثا عن الدفء واتقلب في السرير بلا فائدة...أهدأ قليلا واستقر على جانبي الايمن محملقا في فراغ الحجرة الصغيرة الخالية من الاثاث عدا دولاب صغير يطل على من ركنها في شماته مذكرا اياي بوحدتي واحباطي ثم سرعان ما يبعث في لونه المعدني مزيدا من الشعور بالبرد والغربة...اغطي وجهي بالبطانية واحكم الغطاء تحت قدمي كعادتي وأبدأ التجول في أروقة الذاكرة بحثا عن ذكري ما تبدد ذلك البرد القاتل وتبعث الدفء في قلبي...دون تردد اتجه نحو الركن الذي خبأت فيه بمنتهى العناية أعذب وأسعد ذكريات الطفولة..ذكرياتي مع بيت عمتي
تسكن عمتي في الزقازيق التي تبعد عن قريتنا الصغيرة بحوالي ثلاثين كيلو مترا تقريبا ..
في هذه القرية نسكن في مبني واحد أسرة أبي في الطابق الثاني وأسرة عمي في الطابق الارضي ويلاصق المبني بيت جدتي العتيق الذي تشع الحياة من كافة أركانه
ظلت أسرة عمتي تزورنا كل خميس بانتظام لسنوات طويلة.... كل خميس تشرق علينا كشمس شتوية دافئة وهادئة وحنونة ومبهجة ثم بدأت الخمسان تتباعد رويدا رويدا بمرور الوقت حتى كادت تنقطع الى ان انقطعت بالفعل بوفاة جدتي في نفس العام الذي دخلت فيه امريكا الى العراق, واصبحت الزيارات بعدها متقطعه ومقتصرة على الاعياد والمناسابات وان ظلت محتفظة بالدفء والانس والبهجة
كان الخميس الذي يزورونا فيه يوما مميزا ويبدا الاستعداد له من الصباح الباكر وربما قبلها بيوم فلابد أن نتأكد من وجود الجبنة الفيتا ونوصي على شراء العيش الفينو لأجل العشاء والافطار لأن محمد لا يأكل من خبزنا الفلاحي اما الغداء فلابد أن يحتوي على ملوخية وفراخ بيضا أيضا لأن محمد تقريبا لا يأكل غيرها وأحيانا أذهب لأمي عزيزة العريضة (هكذا كان لقبها) لتأتي لطهو الكسكسي وذبح دكر البط الذي تلقي معاملة الملوك طوال الاسبوع الماضي تمهيدا لتقديمة في تلك الوليمة.
تستفيد امي أيضا من زيارة عمتي فعمل الواجب المدرسي فور العودة من المدرسة حتي لا يشغلني شئ عن الجلسة العائلية مساءا هو حجة قوية وسماع الكلام حتى لا تشتكيني لعمتي هو أيضا حجة مقنعة وحتى عدم لعب الكرة حتى لا تتسخ ملابسي قبل أن تراني عمتي والولاد(اشارة الى احمد ومحمد)هوأيضا حجة في غاية الوجاهة وحده الاستحمام في الشتاء هو الذي كان يلاقي اعتراضا كبيرا لا يلين حتى تحت تهديد الشكوي لعمتي مما يضطر أمي ان تهتف باستسلام"طب تعال امسحلك رقبتك وودنك بفوطة مبلولة"
بعيد صلاة العصر ارتدى أبهى ملابسي وانتظر في البلكونه شاخصا تجاه الطريق وما أن ألمح السيارة اللادا الحمراء حتى تنفرج أساريري واهبط سلالم البيت قفزا لأكون اول المستقبلين افاجأ باسامة الذي كان منتظرا على مدخل القرية وهويجري اما السيارة المتهادية هاتفا " إعميمه إعميمه" تقف السيارة أمامي مباشرة ويهبط منها أحمد و محمد ثم عمتي وعمو مشهور الذي يسلم على وعلى أسامة مبتسما ومقلدا اياه "إعميمه" أذهب للسلام على عمتي فتمنحني حضنا منعشا ثم اسلم على احمد ومحمد واحتضنهما بود كبير يليق بحبي لهما
ندخل جميعا فتتعالى السلامات وعبارات الود والترحاب واجلس انا في ترقب ناظرا الى حقيبة عمتى الصغيرة تمر الدقائق ببطء وانا مازلت على نظرتي وترقبي ثم تسألني عمتى عن نهى وهي تمد يدها الى الحقيبة تصل الاثارة بداخلي الى أقصى درجاتها واجيب بلامبالاة "ماما بتسرح لها زمانها نازلة" تمد عمتي يدها بثلاث أكياس بلاستيكية صغيرة قائلة"خدوا الحاجات بتاعتكوا " نقفز مسرعين اسامة وياسمين وانا ويختطف كل منا أحد الاكياس ونفتحه بلهفة لا يوجد مبرر لاخفاءها نتفحص الغنيمة بنهم فنجد الكيس ملئ بالحلوي والبنبون الذي لا يوجد مثيله في دكان عم عبده ...اغلق كيسي جيدا ثم اسأل عمتي في براءة مصطنعة" انا طالع فوق تجيبي الكيس بتاع نهي اديه لها؟" فتجيب عمتى بعفوية "خد" اختطف الكيس واجري قبل أن تفضحني ابتسامة انتصار لا اقوى على كبحها واقف على بسطة السلم لانتقي منه ما خف وزنه وغلا ثمنه ثم ألقيه بلا اكتراث في حجر نهى التى مازلت امي تسرح لها.
اعود للجلسة الممتعة.. عمو مشهور يحكي لنا عن آخر طرائف جدو السيد او يحكي لنا أحمد أومحمد اخر نكته ضحكة صافية من هنا على قفشة ظريفة من هناك يمر الوقت ويستأذن عمو مشهور للذهاب الى الحسينية وينفرط عقد الجلسة بذلك ونذهب نحن الاطفال للعب أو لمشاهدة التلفزيون وفي اليوم التالي يأتي عمو مشهور مساء لا صطحاب الاسرة الى الزقازيق فتتكرر نفس جلسة الامس بنفس الدفء والبهجة وفي ساعة متأخرة من الليل يذهبوا فينفرط عقدنا من جديد في انتظار الخميس التالي
في أجازة الصيف أذهب لقضاء أسبوع على الاقل عند عمتي في الزقازيق ولي هناك ذكريات عزيزة جدا وطريفة خاصة في شقتهم القديمة الصغيرة خلف المحافظة..حيث الكمبيوتر الصخر ولعبة الساحرة التي ما أن مللنا منها حتى بدأنا نذهب لمحل العاب كمبيوتر مجاور اسمه اوركيد...لعب الكرة مساء في الشارع مع وائل الديب وحسام وبكر ومحمد عبد الجواد الذي كان يثير الخوف في نفسي حيث كان يبرز له ورم ما على جبينه عندما يبذل مجهود كبير أو يغضب مما جعلني اتحاشاه ...معاكسة سكان الشوارع المجاورة عن طريق الانتركم ثم الجري مسرعين وقد امتلئنا بنشوة المغامرة ....سوبر ماركت البكار يوم ذهبت مع محمد لشراء عيش فينو فاذا بي أسبق محمد بالكلام واسأل البائع بثقة مفتعلة " عمو فيه عيش كوزان" ينظر لي البائع باستغراب فيسارع محمد "عيش فينو" اشعر بالحرج....اذكر أيضا حين كنت احلي الشاي ذات مرة فاوشك غطاء السكرية أن يقع على الارض وعندما حاولت ادراكه أوقعت الغطاء والسكرية نفسها وكوب الشاي...وددت وقتها لو تنشق الارض لتبتلعني الارض لكن عمو مشهور هون علي بابتسامة حنونه وصادقة وهو يهتف "يا أرعن"
وحتى عندما رحلت أيام الطفولة المبهجة واتت مرحلة الشباب الاقل بهجة ظلت زياراتي لبيت عمتى يوم الثلاثاء من كل أسبوع أثناء عملي بمرور الشرقية من أحلى واعذب اوقات حياتي حيث الطعام اللذيذ الشهي والذي مازال تذكره يسيل لعابي حتى الان من فرط حلاوته ثم اللجلسة الاسرية الدافئة والمبهجة التي ينيرها عمو مشهوره بحضوره الطاغي وثقافته المبهرة أو احمد بخفة ظلة الفائقة وقدرته على انتزاع الضحكة من اعماق قلبي أو محمد بهدوءة ورزانته التي لا تخلو من ظرف وطبعا عمتي بحنانها الذي يغمرنا جميعا وقدرتها الفائقةعلى الاستماع والاحتواء والمساندة.
أمسك كل تلك الذكريات بين راحتى واحتضنها طويلا ثم أضعها برفق في نفس مكانها من الذاكرة وقد ملأني الدفء وفاض ليملأ الغرفة كلها يصاحبه شعور عميق بالامتنان لعمتي وعمو مشهور واحمد ومحمد....وفجأة يطل على شعور متطفل بالاستغراب من ألا أجد في ركن الذكريات العذبة أي ذكري لأسرتنا الصغيرة أبي وامي واختي نهى وانا ...اعود لأبحث من جديد فلا أجد سوى صور مبتورة ومشاهد مشوشة لا نظهر أربعتنا مجتمعين فيها ابدا فإما امي غير موجودة أو ابي....يصدمني ذلك الشعور ويبدد بعض الدفء الذي اعتراني لكنه على العكس يزيد من شعوري بالامتنان تجاه أسرة عمتي...وأفكر لو أنهم معي الان" عمتي واحمد ومحمد"فأمنحهم حضن كبيييييييييير وطويل يمتد عبر الزمن بعمق حبي لهم...ثم اقرأ الفاتحة على روحا أبويٌٍِِ سعيد ومشهور...وبعدها اخلد للنوم هادئا ودافئا وممتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق